التصويت الشعبي الديمقراطي والحر، يعمق التناقضات…

قلنا في ختام مقال سابق يحمل عنوان “مغرب 2016، ما بين المد الاحتجاجي والفعل الانتخابي”، أن “الشعب المغربي، انخرط بقوة، في مسيرات الربيع العربي وفرض أجندته السياسية وقبل العرض الإصلاحي المقدم من طرف القصر… وإلى يومنا هذا ما زال الشعب فاعلا رئيسيا حيث صوته الانتخابي يعد سلاحا آخر يصل صداه إلى كل المؤسسات ويفجر التناقضات الخفية ويعبد الطريق للخيارات الصائبة”… أتحدث عن فئة من الشعب المغربي قررت المشاركة في الانتخابات الجماعية للرابع من شتنبر 2015….

 أنت، أيها القارئ، يمكن أن تكون واحدا منهم… أو من الفئة الشعبية الأخرى، الكبيرة، الغير مبالية أو المقاطعة للانتخابات… لأنه، حسب الإحصائيات المتوفرة،  فإن الكتلة الناخبة المغربية في حدود 27 مليونا، منهم 15 مليون مغربي ومغربية سجلوا أسمائهم في اللوائح الانتخابية، لكن المشاركين منهم فعليا في انتخابات 4 شتنبر 2015، لم يتعدى 53,67 بالمائة، أي تقريبا حوالي 8 مليون مواطنا ومواطنة… مشاركة وتصويت هذه الفئة الأخيرة خلق مفاجئات وأدى إلى اصطفاف جديد للقوى السياسية وأرهق مراكز القرار في البحث المضني عن توازنات سياسية جديدة… لنوضح أكثر…

نعرف أن ضغط الربيع العربي أدى إلى تبيان الوزن الانتخابي الحقيقي للحزب الإسلامي، العدالة والتنمية، الذي كانت العمليات الانتخابية السابقة، بطريقة تحضيرها، تعمل على احتوائه وتقليص نسب تقدمه… الانتخابات السابقة لأوانها سنة 2011، كانت بمثابة إعلان صريح عن القوة الانتخابية لهذا الحزب الذي احتل المرتبة الأولى وحصل على 107 مقعدا برلمانيا في الوقت الذي كان نصيب الحزب الأول في كل الانتخابات المغربية السابقة في حدود الخمسين مقعدا… هكذا، احتل حزب الاستقلال الصف الأول سنة 2007، ب 52 مقعدا، وقبله حزب الاتحاد الاشتراكي، تصدر نتائج الانتخابات البرلمانية لسنة 2002 ب 50 مقعدا…

الربيع العربي أتى بالموجة الإسلامية للمشاركة في التدبير الحكومي وأيضا بتناقضات جمة حول أفضل الطرق لاحتواء هذا الفاعل الحكومي الجديد… وقع ما وقع في بلاد عربية عديدة، أدت إلى تهميش التيار الإسلامي وأحيانا إقصائه. أما في المغرب، فالتوازنات الداخلية والخارجية، ووجود فاعل مركزي قوي ومؤثر يتمثل في القصر الملكي، جعل التجربة الحكومية تستمر إلى حدود اليوم رغم كل المضايقات والعقبات التي وُضِعت في طريق رئيس الحكومة، عبدالإله بنكيران… 

بتحليل مختصر… يمكن الجزم أن الجهات الإدارية والاقتصادية والأمنية التي كانت تعارض الحكومات الشعبية التقدمية منذ الاستقلال (1956) إلى يومنا هذا، لم تتوقع النجاح الانتخابي الكبير لحزب معارض ومستقل، وزيادة على ذلك ذو توجه إسلامي… هذه الأطراف، قَبِلت على مضض ما أتت به رياح الربيع العربي، ولكن لم تستسلم كليا بل أعدت العدة لإضعاف هذه التجربة، وإسقاطها في اللحظة المواتية، إن ديمقراطيا عبر صناديق الاقتراع أو بأي طريقة أخرى مناسبة… فتم تعبئة جزء من الإعلام وأطر إدارية وأطراف حزبية واقتصادية لهذا الغرض…

 بدأت الحكاية عند تكوين الحكومة سنة 2011، بإصرار العديد من الأحزاب على الاصطفاف في المعارضة، من ضمنها، الحزب الجديد، طبعا، الأصالة والمعاصرة، وحليفه الآخر، حزب الأحرار. وتبعهما حزب تاريخي عاقبته صناديق الاقتراع، ألا وهو حزب الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، الذي تمنى رئيس الحكومة المعين، دخوله للحكومة مع باقي أحزاب الكتلة الديمقراطية التي قبلت عرض المشاركة في أول حكومة للربيع المغربي، وأعني بذلك حزب الاستقلال وحزب التقدم والاشتراكية…

كانت الأهداف، الغير معلنة، لهذا اللوبي المعارض للتجربة الجديدة، من جهة تمكين حزب الاستقلال من فرض توازن داخل الحكومة حتى لا يطغى حزب العدالة والتنمية ورئيسه إعلاميا وتدبيريا؛ ومن جهة أخرى، تقوية صف المعارضة بحزب تاريخي، كان خلال عشرات السنين أمل المغاربة في التغيير، بالتنسيق مع حزب الأصالة والمعاصرة نظرا لحساسياتهما تجاه التيار الإسلامي…

هذا السيناريو لم ينجح، نظرا للاهتمام الكبير الذي أبداه المغاربة برئيس الحكومة وبالتجربة الجديدة ومسايرة الوزراء الاستقلاليين لها… فكان “القرار” هو خلق أزمة حكومية وصعوبات لتشكيل أغلبية جديدة، وذلك بإعلان حزب الاستقلال انسحابه من الحكومة… الكل كان ينتظر سقوط الحكومة وعدم قدرة حزب العدالة والتنمية على لم أغلبية جديدة… لكن الوضع العربي والدولي والمعطيات الداخلية مع حنكة قيادة العدالة والتنمية وكذا تبصر القصر الملكي، جعلا التجربة تستمر بدخول حزب الأحرار، حليف الأصالة والمعاصرة، إلى الحكومة والخروج النهائي لحزب الاستقلال منها…

هنا، صار “هدف” اللوبي المعارض،  هو خلق جبهة معارضة قوية للحكومة مشكلة من حزب الأصالة والمعاصرة والأحزاب التاريخية (حزب الاستقلال والاتحاد الاشتراكي)، مع ما يستدعيه ذلك من تعبئة كل الفعاليات المجتمعية لهذا الغرض… هكذا، عاش المغاربة، لحظات فريدة من الصراع السياسي والكلامي ما بين رئيس الحكومة وقادة الأحزاب المعارضة، تجاوز فيه السياسيون، في العديد من الحالات، حدود اللباقة والأخلاق والمصداقية…

كان المطلوب هو إضعاف رئيس الحكومة وتعبئة الشارع ضد القرارات الحكومية والتي في غالبيتها تمس جيوب المواطنين كإصلاح صندوق المقاصة وأنظمة التقاعد… النتيجة المنتظرة كانت سقوط شعبية رئيس الحكومة وحزبه وإنهاء التجربة في أقرب انتخابات جماعية أو تشريعية… لم يحدث شيء من ذلك، شعبية عبدالإله بنكيران تصاعدت وبقيت مرتفعة ومستقرة، ونتائج الانتخابات أتت بعكس المنتظر بل خلقت مصاعب جديدة لأحزاب في الأغلبية والمعارضة…

لنتناول كل نقطة على حدة… أولا، نتائج الانتخابات الجماعية بوأت حزب العدالة والتنمية الرتبة الأولى من حيث الأصوات متجاوزا عتبة المليون ونصف صوتا، محافظا على تسيير معاقله البلدية السابقة كتطوان وشفشاون والظفر بمدن كان يسيرها حزب الأصالة والمعاصرة (طنجة، مراكش، مكناس،…)، وأخرى لحزب الاستقلال (فاس…)، ولحزب الأحرار (سلا…)، ولحزب الاتحاد الاشتراكي (الرباط، أكادير…)، ولحزب الاتحاد الدستوري (الدارالبيضاء…)، وهي كلها من كبريات المدن المغربية… كما احتل الحزب الإسلامي مراتب متقدمة من حيث عدد مقاعد أعضاء الجهات الإثنى عشر، الصف الأول في خمس جهات (سطات-الدارالبيضاء، درعة تافيلالت، فاس-مكناس، الرباط-سلا-القنيطرة، سوس درعة) والصف الثاني في أربع جهات (بني ملال-خنيفرة، الشرق، مراكش-أسفي، طنجة-تطوان-الحسيمة)… 

هذه النتائج نزلت كالصاعقة على اللوبي المعارض لتجربة الحزب الإسلامي… فوقع علنا ما لم يكن في الحسبان، أحزاب من الأغلبية تصوت لرؤساء، بلديات وجهات، محسوبين على المعارضة مما كاد يؤدي إلى تصدع وتفكك الأغلبية الحكومية الحالية… أما الأحزاب التاريخية الموجودة في صف المعارضة فعاشت قيادتها وهياكلها زلزالا ما زلنا نعيش تداعياته إلى اليوم… 

هكذا، قرر حزب الاستقلال المعارض، الذي احتل الصف الثالث بأكثر من مليون صوت، فك ارتباطه بحزب الأصالة والمعاصرة وتوجهه نحو المساندة النقدية للحكومة، وإرسال إشارات حول استعداده للمشاركة مجددا بجانب حزب العدالة والتنمية في الحكومة المقبلة… أما الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية فوجد نفسه في موقع صعب: هل يستمر في التموقع إيديولوجيا ضد أي حزب إسلامي أم التعامل براغماتيا وقبول التعايش مع الواقع الجديد. الواضح اليوم، هو تأكيده على رفضه كل محاولات التحكم والهيمنة داخل المشهد السياسي سواء تعلق الأمر بالحزب الإسلامي القائد للحكومة أو الحزب المعارض الرئيسي، الأصالة والمعارضة، هذا الحزب الأخير، احتل خلال انتخابات 2015، الصف الثاني ب 1.333.546 صوتا لكنه ظفر برئاسة خمس جهات وفاز بصعوبة برئاسة الغرفة الثانية للبرلمان، في مواجهة مرشح حزب الاستقلال وفي لحظة سياسية مغربية فارقة، اختلطت فيها كل الأوراق وانفكت كل التحالفات….

ثانيا، كيف يمكن تفسير تصويت أغلبية الناخبين لصالح حزب رئيس الحكومة، في الوقت الذي، حسب رأي البعض، يتخد قرارات لاشعبية ويترك الأمن يتدخل لقمع الاحتجاجات؟… أعتقد أن الناخب المغربي يعي الظرفية الحالية، فهو قرر إعطاء الفرصة للإصلاح مع الاستقرار من داخل المؤسسات وحين الإدلاء بصوته فهو يختار ما بين الصوت والرصاصة أي الانتصار للمسلسل الانتخابي عوض الحرب الأهلية… 

ناخبون آخرون يعتقدون أنه ما زالت هناك جهات تعرقل عمل هذه الحكومة وأنه من المطلوب تدعيمها وتقويتها انتخابيا لتعزيز موقعها التفاوضي… البعض الآخر يعتبر أن أيادي، مسؤولي حزب العدالة والتنمية، ما زالت نظيفة… هناك من يصوت لكون رئيس الحكومة شخصية لامعة في المجال السياسي المغربي… آخرون يمنحون صوتهم لحزب العدالة والتنمية لأنهم يعتقدون أنه سيعطي للملف الاجتماعي الأولوية بعد الانتهاء من تركيز عمله خلال هذه الولاية على ضبط التوازنات المالية والقيام بالإصلاحات الهيكلية الضرورية التي لم تقوى أية حكومة سابقة على معالجتها كنظام المقاصة وإصلاح التقاعد… 

ثالثا، من نتائج العملية الانتخابية، تشتت صفوف المعارضة، حيث أقدم حزب الاستقلال على فك ارتباطه بحزب الأصالة والمعاصرة، وهذا الأمر، كان منتظرا عاجلا أم آجلا، لأن المخططين لسيناريو خروج هذا الحزب إلى المعارضة، تَنَاسوا أن النشأة التاريخية والتركيبة السوسيولجية لحزب الاستقلال، تتعارضان مع احتلاله مواقع متدنية أو تابعة لأحزاب أخرى، وهو نفس الشيء بالنسبة لحزب آخر، كان تاريخيا معارضا شرسا للدولة والحكومات المتعاقبة، ألا وهو حزب الاتحاد الاشتراكي، الذي أصبح اليوم ما بين خيارين إما أن يسترجع هيبته أو يندثر… الأكيد أنه لن يكون حزبا تابعا…

انطلاقا من كل ما ذكر، فالساحة السياسية تعيش على إيقاع ضَبْط كل حزب لموقعه في الخارطة السياسية، هكذا فطن حزب الأصالة والمعاصرة لوضعه الجديد وقرر عقد مؤتمر وطني سيكون مصيريا في تحديد هوية وبرنامج وقيادة الحزب في الفترة المقبلة. هناك قضايا ستطرح بحدة خلال المؤتمر وبعده… أولا، هل سيستمر الحزب في رفضه المشاركة إلى جانب العدالة والتنمية في حكومات لاحقة وبالتالي تحمل عبئ المعارضة لولاية أخرى؟ ثانيا، هل سيفتح باب الاجتهاد للتعامل ببراغماتية مع الواقع الجديد؟ وأخيرا، ما العمل في حال تَحَقَّق مشروع الكتلة التاريخية خلال الولاية الحكومية المقبلة عبر تحالف الحزب الإسلامي، العدالة والتنمية، والكتلة الديمقراطية (حزب الاستقلال، الاتحاد الاشتراكي، حزب التقدم والاشتراكية)… هذا السيناريو المحتمل يؤرق كذلك، دوائر القرار، لأنه سيترك فراغا كبيرا في جبهة المعارضة الذي يمكن حينها أن تحتله القوى الشعبية الغير مشاركة في العملية الانتخابية والفاعلة على الساحة الاحتجاجية، أقصد أساسا، جماعة العدل والإحسان والسلفيين والنهج الديمقراطي…

أي سيناريو حكومي ينتظر المغاربة في صيف هذه السنة؟… وهل ستعرف الانتخابات البرلمانية نسبة مشاركة أعلى؟ هل ارتفاع نسبة المشاركة في صالح حزب العدالة والتنمية؟ هل ستستمر شعبية حزب العدالة والتنمية؟ هل سيعاقب الناخب بعض الأحزاب من الأغلبية والمعارضة على تذبذب مواقفها؟ من سيكون الرئيس المقبل؟ هل ستمنح ولاية ثانية لرئيس الحكومة الحالي، الإسلامي عبدالإله بنكيران؟ أم ستمنح لشخص آخر داخل صفوف العدالة والتنمية؟ هل سنعيش سيناريو التراجع عن المنهجية الديمقراطية، كما حدث سنة 2002،  عبر منح رئاسة الحكومة لتكنوقراطي؟ من سيساهم في الأغلبية الحكومية ومن سيعارض؟ 

 الأجوبة تبدو، على الورق، بديهية… لكن حين نتعمق في بعض الجوانب الخفية، تصبح معقدة وصعبة الحل… أعتقد أن بداية الإجابة توجد أولا، بيد الناخب المغربي من حيث كثافة مشاركته واتجاه تصويته، وبعد ذلك يبقى المجال مفتوحا للقرار الوطني المستقل بتفاعله مع دوائر القرار الدولي وجدوى استمرار هذه الحكومة الفريدة في العالم العربي…وللحديث بقية…. 

عبدالحق الريكي