عبد السلام القباج ينعي الحسين طلال

 

صباغة هروب مسل عبر حدود فن الواقعية وترجمة ذاتية للواقعية

عن سن80 سنة توفي يوم السبت 19 فبراير2022، الحسين طلال أحد رواد التشكيل المغربي، الذي مارس هذا الفن منذ 1960، وحظي باستحقاق وبمكانة متميزة ومشرفة لدى كثير من المحافل الوطنية والدولية سنة 1965.

كان رحمه الله مبدعا طيب الأخلاق والدماثة، كريما حسن المعاشرة. تعرفت عليه للمرة الأولى بضاحية أزمور بادية اشتوكة، والثانية سنة 1967 إبان زيارته للمرحوم أحمد الشرقاوي بأحد مستشفيات العاصمة الرباط، وكانت تربطني بالأخير صداقة قديمة، وكم كانت فرحتي كبيرة حين شرفني طلال بزيارة لرواق “فن الملهمة” بالدار البيضاء.
يشرفني هنا الحديث بإيجاز عن أعماله الفنية كنوع من التكريم لروحه الطيبة، فنه يمتح من هموم المستضعفين في الأرض، وبهذا يساهم في إغناء المنتوج الفني في عصره، وذلك بنية صادقة. تطرح أعماله الفنية موضوعة معنى الحياة، التي يعيشها البشر عموما، وطبقة المستضعفين خصوصا، تلك المثقلة بالهموم والمعاناة والمحن التي استنزفت قواها مثل ماحكت لنا خرافة سيزيف الأسطوري. كان يلعب على عاطفة الشفقة محاولا تضخيم أثر الوقع في المتلقي من خلال شخوصه الغريبة، وبالفعل استطاع أن يحقق المراد لدي، ولدى محبيه الآخرين، غير أنه خلافا لطبع والدته المرحومة الشعيبية كان يتحاشى الظهور الاحتفالي المفرط الذي كان يستهوي أمه. أراد الحسين طلال أن يكون بسيطا شعبيا أكثر من الشعيبية في تواضعها. أعتبره رحمه الله فنانا تعبيريا بحدة، كانت له القدرة الفائقة على تصوير الأحاسيس البشرية الضعيفة دون أن يسقط في متاهات الترافع المفرط، ودون تعقيد ولا إيغال في طرح التساؤل العبثي، غير المتشبع بالإيمان القوي الذي يتساءل عن كينونته كفرد شقي عوض أن يكون سعيدا كغيره، لذلك حاول إخراج فنه في قالب تصويري شيق من خلال بورتريهاته، التي توحي إلى مهرجي السيرك. وهي تجربة أبدعها بكثير من الفنية والحذق، ألم يقل بول كلي إن” الفن يعيد اللامرئي مرئيا”، فالحسين طلال ضخ نفسا عميقا في هؤلاء المهرجين المتفردين، الذين اشتهروا بتمثيل المشاهد المسلية، رغم ما يتخبطون فيه من معاناة اجتماعية، وهم في لباس قشيب وهيئة غريبة، كان يتوخى اللجوء إلى بث في نفس المتلقي نوعا من الاستعطاف في حق هؤلاء، رسم أحوال ملامحهم وهيئة لباسهم الجميل، وهم يحاولون إخفاء أحوالهم الاجتماعية بشتى أساليب التهريج وإضحاك المتفرجين، ناسين أو متناسين وضعهم الحقيقي واستيائهم منه، وإحباطهم إزاء القدر المحتوم، صامدين يتحدون عوادي الزمن.
كان الحسين طلال يؤمن بأن العمل الصباغي حركة تطهيرية تشفي من وقع المكبوت، ولا يأبه بالملاحظة السلبية لا يهمه إلا أسلوبه في تخيل الأشباح التي تتفاعل في مخيلته، ويتخاطب معها في صمت معبر أحسن تعبير. كان يشخص الفن بإيمان ورباطة جأش وعزم كعزم شخوصه، كان يؤمن بأن الوجود اليومي ليس عبثا، لكنه كفاح وتحد صامت، ويقتضي، أيضا، الوعي المتقد والاطمئنان الإيجابي. كان يرسم عن كثب أحاسيس الإنسانية بتريث وأناة بألوان فاقعة بكثير من الواقعية التعبيرية، وفي قوة الإنجاز، متوخيا تبليغ العواطف الصادقة، بدون تعقيد ولا غلو في الاستيهام، وبدون اللجوء إلى الاستعارات. صباغته لا تطمح إلى التجميل، بل إلى الجميل وإلى السهل الممتنع، بإتقان في الإنجاز والتبليغ في الرسم عبر كل الأشكال الهندسية. مقارباته غنية بالتقنيات القوية، أسلوبه متميز، وشخوصه معبرة تحملق في المتلقي مرتدية أبهى اللباس القشيب، تتبع بنظراتها الهادئة حركات المتلقي. كان يعيد بناء الأجسام كي يعيد النظر في ماهية رسالتها، قصد إخراجها للمتلقي بطابعه الخاص وأسلوبه المتميز ورؤيته الخلاقة.
أتساءل لماذا اقتصر فنه على تصوير الجنس النسوي فقط، هل اقتداء برؤية الفنانين الصباغيين المنتمين إلى التيار الرومانسي والتيار الرمزي، الذين كانت لهم نظرة أخرى خاصة بطبع المرأة أم ماذا؟la femme fatale.
يكفي فخرا انتماء الرجل إلى الرواد الحدثيين الواقعيين وإلى التعبيريين وكذا الرومانسيين وإلى التجريديين، ولم يبخس أعمال هؤلاء كما كان الشأن عند خصوم التجريد. كان يغوص في أعماق نفس الإنسان وفي استيهاماته من خلال بحثه البليغ الشبقي، مستعينا بالإيحاءات الصائبة والمرجعية الفنية، بكثير من القوة والمهارة التي تترك في النفس الأثر العميق. لا أدري من هو القائل إن” صباغة الحسين طلال صباغة هروب مسل عبر حدود فن الواقعية وترجمة ذاتية للواقعية”. رحم الله الحسين طلال وأسكنه فسيح جنانه، وألهم ذويه الصبر والسلوان. إنا لله وإنا إليه راجعون.