رموز التشكيل المغربي يخلدون “تراث بلادي” بالمكتبة الوسائطية لمسجد الحسن الثاني بالبيضاء

 

بشعار “التراث.. قراءة جيدة للماضي من أجل فهم المستقبل”

احتضنت، أخيرا، قاعة العرض التابعة للمكتبة الوسائطية لمؤسسة مسجد الحسن الثاني بالدار البيضاء معرض” تراث بلادي”، الذي امتد طيلة 10 أيام، وتم بشراكة مع جمعية أركان للنهوض بالفن وحماية التراث.

IMG-20231109-WA0002-9bb

واختار المنظمون هذه السنة للحدث الفني شعار “التراث.. قراءة جيدة للماضي من أجل فهم المستقبل”. وشارك في هذه التظاهرة الجمالية مجموعة من الفنانين التشكيليين الذين رسخوا وجودهم البصري في الهنا والهناك، من قبيل الفنانة التشكيلية الهام العراقي عمري، ومليكة اكزناي، وعبد الرحمان بنانة، وليلى الشرقاوي، وعبد الله الحريري، وعبد الرحمان وردان، وعزيز سيد. في ورشات جماعية أسس هؤلاء الفنانون التشكيليون على اختلاف توجهاتهم وأساليبهم الصباغية لثقافة النهوض بالتراث الفني والثقافي للمملكة المغربية، مسنودين إلى تجاربهم الفنية الممتدة زمنيا، كما تقاسموا لحظات في هذه الورشات مع جمهور متيم بالفن وتراث بلادي معا.
في التفاصيل حمل الفنانون المشاركون مقتربهم الصباغي وأدواتهم الإجرائية، من أجل إضفاء نوع من الحماسة والحبور على قاعة العرض التابعة للمكتبة الوسائطية لمسجد الحسن الثاني، وهكذا تناوب التشكيليون والتشكيليات على ورشات فنية بهدف إشاعة ثقافة الصورة والصباغة والسند.
وتختزل تجربة الفنانة التشكيلية والناقدة الفنية إلهام العراقي عمري سنوات من العمل الدؤوب، فهي من الفنانات التشكيليات البارزات في الساحة الفنية الوطنية والدولية، كانت البداية بالفن التشخيصي، حاولت من خلاله إبراز تنوع وتعدد الموروث الثقافي . وقد تلا مرحلة الأعمال الفنية التشخيصية مرحلة اللوحات الشبه تشخيصية، والتي قادتها نحو الفن التجريدي كأسلوب فني يميل إلى البحث المستمر عن جوهر الأشياء المادية، “تجريد مبهر يميل نحو المطلق الذي يختزل كل ما هو مادي، ليفسح المجال إلى جوهر الأشياء” كما عبرت عنه الفنانة.
عرضت إلهام العراقي عمري في 2004 بداية لوحاتها في بلدها المغرب، كما سافرت بفنها إلى أوربا والشرق الأوسط واليابان والولايات المتحدة الامريكية، ودول أخرى وجغرافيات متنوعة
واصلت الفنانة مسيرتها وكللتها بتظاهرات فنية نذكر منها المعرض الفردي بدار الفنون بالدار البيضاء سنة 2009، ولقاءات فنية في الصويرة والمحمدية والمعهد الثقافي آنفا في 2010.


شاركت بلوحاتها بفرنسا بمناسبة الملتقى الرابع المتوسطي للتبادل الثقافي والفني بين بلدان البحر الأبيض المتوسط في سنة 2011.
حازت على أول تنويه مشرف في 2012 خلال المعرض الدولي بإسطمبول واختيرت ضمن المشاركين في صالون الخريف بباريس سنة 2013، لتعود مرة أخرى لعاصمة الأنوار الفرنسية في المعرض الدولي للفن المعاصر بمتحف اللوفر سنة 2014.
أما سنة 2015 فهي حافلة بالعطاء الفني بالنسبة لإلهام، حيث شاركت في شهر فبراير في معرض “جدارية السلام” بالمعهد الثقافي الإسباني في مدينة هيوستن الامريكية وكان عبارة عن جداريات صغيرة الحجم ساهم في إنجازها فنانون من جنسيات مختلفة. وقد أقيم نفس المعرض في شهر أبريل بالرابطة الثقافية الفرنسية بمدينة دبي الإماراتية .
كما شاركت إلهام العراقي عمري في أول تظاهرة للفن تقام كل سنتين في “المتحف الأوروبي للفن الحديث” في برشلونة الإسبانية، وهو عبارة عن قصر يقع في المركز التاريخي للعاصمة الإسبانية والذي لا يبعد كثيرا عن “متحف بيكاسو” ملتقى الفنانين العالميين، حيث تمحورت هذه التظاهرة الفنية العالمية حول تيمة السرد البصري تحت عنوان مقومات وأسس الفن المعاصر . وبدعوة من “رواق مالون” ، تشارك إلهام العراقي عمري إلى جانب المئات من الفنانين العالميين في “آرت إكسبو” بمدينة نيويورك في الولايات المتحدة الأمريكية ، و يتعلق الأمر بأكبر معرض ملتقى للفن في العالم.
و في نفس السنة تلتها بمشاركة فنية في المعرض العالمي للفن المعاصر في ساحة الشعب بمدينة روما الإيطالية ملتقى فني عالمي جمع الفنانين التشكيليين والمخرجين السنمائيين
والكتاب وكتاب السيناريوهات وتجدر الإشارة أن ساحة الشعب “بياتزا دي بوبولو” وقد شهدت مرحلة الستينات من القرن الماضي ميلاد حركة الفن المعاصر بإيطاليا والتي قادها فنانون تشكيليون كطانو وماريو و جيفانو و فرنكو انجينلي تحت عنوان “الآفاق الجديد” حيث كانت الساحة مسرحا للتعبير عن الأفكار التواقة للحرية، و رمزا خالدا لتاريخ الثقافة الرومانية.
وحازت الفنانة جائزة بوتشيلي بمدينة فلورونس الإيطالية، وهي جائزة تخصص لتكريم البحث الفني بمعرض الفن المعاصر بإيطاليا.
استهلت إلهام العراقي عمري 2016 بعرض فردي بالمكتبة الوطنية بالعاصمة الرباط تحت عنوان “نفس” شملت إضافة على لوحات زيتية ، أعمال النحت و تركيبات متحركة تدعو الزائر للتقرب منها و التفاعل معها ؛ و قد حمل تلاحقا و تلاقحا بين النور الوهاج، التسبيح والزمن.
واحتفالا باليوم العالمي للجمارك تم عرض فردي بمقر الجمارك بالرباط في 2017 كما استدعيت لعرض فردي بقصر “أومفيتريت” بالصخيرات و الذي دام ستة أشهر في 2018.
وعند حلول فصل ربيع 2019 رشحت للمشاركة في صالون الرسم بالقصر الكبير بباريس – فرنسا – برسم يتمحور حول الزمن مستعملة تقنية الفحم وقلم الرصاص الزيتي .
تجدر الإشارة هنا إلى صالون الخريف الذي يكتسي أيضا أهمية كبرى منذ تأسيسه سنة 1903 ، حمل على عاتقه مشعل عدة تيارات فنية ، فكان له تأثير هام في مسار عدة فنانين أمثال : سيزان – بيكاسو – مودي كلياني- رونوار … و كذلك فنانين مغاربة كالقاسمي
والشعيبية…
في حين تندرج تجربة ليلى الشرقاوي في ما يمكن أنْ نطلق عليه “شعرية الخفاء والتجلّي” القائمة أساسا على الضوء في مختلف تمظهراته، والتي تتكشّف بصورة واضحة من خلال الأشكال التعبيرية التي تغذّي التجربة الجمالية لليلى الشرقاوي، وخروج هذه الأشكال إلى الوجود بتلقائية، وهي التي تؤكد عليها الفنانة واصفة إياها بـ”تلقائية حيوية”. فاللون، هنا وسيلة للتعبير عن الأشكال والألوان حسب “الحالة النفسية”..

وفي هذا الصدد، يقول عنها الأستاذ الباحث عبد السلام الشدادي، الفائز أخيرا بجائزة ابن خلدون-سنغور للترجمة في العلوم الإنسانية: “أحبّ في ليلى الشرقاوي تلقائيتها الخاصة بها، وهي التلقائية التي تذهب بعيدا في العمق الإنساني والإتقان الفني”.. فالحالة النفسية التي تسكن الشرقاوي لا تعدو أن تكون تعبيرا عن قلق في”ملامسة” الألوان عموما، وخصوصا الأبيض والأسود الذي يعتبر بالنسبة لها “معاناة أكيدة ” كما كتبت ذات يوم. وإذا كان البحث عن خصوصية أعمال الفنانة التشكيلية المغربية ليلى الشرقاوي يقود بالضرورة إلى الضوء، لأنه كما اتّضح هو البؤرة التي من خلالها تكون قراءة أعمالها شمولية ومتكاملة، فإنّ لوحاتها تنضح بشعرية ضوئية ترسم أفقها الإبداعي بصورة شذرية غير مكتملة، شعرية توحي أكثر مما تعبّر، تَشي ولا تشير، تخفي أكثر مما تفصح. ومن ثمّ تعدد القراءات وملاحقة المعنى المتعدد، لأنها هي نفسها في بحث مستمر وملاحقة دائمة للاّنهاني والمنفلت.
ومن المشاركات، أيضا، نكفي ان نذكر الفنانة التشكيلية مليكة أكزناي، التي تهوى، أيضا، فن النحت، قالبا تشكيليا خاصا بها يعتمد على الأشكال والألوان الطبيعية التي تؤثث أعمالها باعتبارها فضاء واسعا لإسقاط أحاسيسها الإنسانية.
وواظبت التشكيلية أكزناي منذ بداية مسيرتها الفنية، التي تعود لسنة 1970، على تنويع أعمالها وصقل موهبتها من خلال التكوين حيث ولجت مدرسة الفنون الجميلة بالدار البيضاء (1966 ـ 1970)، ثم درست فن الحفر بباريس ونيويورك.


من بين الفنانات التجريديات، تبرز الفنانة التشكيلية مليكة أكزناي باعتبارها من أبرز ممثلي هذا الاتجاه المتأثر بأحدث المدارس الفنية.
تكشف أعمال مليكة أكزناي بألوانها وتركيباتها عن حيوية مدهشة، كما تتميز بالبحث في ثنايا الموروث الحضاري المغربي الأصيل عبر أشكال تجريدية جميلة مطعمة بالحرف العربي، وهي تثبت بذلك أن الفن التجريدي ليس غريبا على الفنان المغربي، بل هو فن العرب الأصيل، ويكفي أن نفتح العين جيدا لنعثر عليه في كل مكان من حولنا.
يمكن لبعض الأعمال الفنية أن تعرض مرارا، في مراحل مختلفة وفي أروقة وقاعات عرض متعددة، فتحقق بذلك إمكانيات إضافية للقراءة الجديدة ولإعادة بناء المعنى. أكثر من ذلك، يصبح لها تاريخ من تراكم الحضور والوجود المتعدد.
ولعل ذلك ما فكر فيه تحديدا عبد الله الحريري وهو يقترح (أو يستجيب لاقتراح أو لنداء عميق)، فهو يدرك أن العمل الفني الجيد، الطليعي، الممتلئ بالمعنى كلما عرض أكثر، هنا أو هناك، وكلما انتقل من سياق إلى آخر، ومن بلد إلى آخر، كلما قرئ أو قرئ من جديد وفق المنظور المتغير للأحوال التاريخية والسياسية والثقافية، واستجابة للتحولات النظرية والمعرفية والجمالية الجديدة، وتحولات الجمهور المهتم وآليات التلقي.
وهكذا، فيما يظل العمل هو نفْسه – من حيث المعطيات الفيزيقية، الطول والعرض والحجم والمظهر والشكل والمادة … – فإن هويته مع ذلك تتغير بتغير السياق والظرف والقارئ.


العمل الفني كائن حي، فهو لا يبقى كما وُلِد وكما كان في بدايات خروجه الأولى إلى أول معرض، وإلى أول جمهور. إن له هوية منفتحة تواصل التفاعل والاغتناء والتعارف وبناء الصداقات والعلاقات الجديدة، واستيعاب الخبرات والمعارف والقراءات المختلفة. بمعنى، أن العمل الفني لا يكتفي بالمعطيات الخاصة الموجودة في بطاقة تعريفه الشخصية، في بطاقته الوطنية أو في جواز سفره، وإنما يكتسب عناصر تعريف جديدة كلما حل ببلد آخر أو تنقل عبر الجغرافيات والثقافات والحضارات أو انخرط في الحوارات والسجالات المفتوحة.
هذا معنى أن يقول ناقد فني وخبير عالمي في تنظيم المعارض التشكيلية، روبير نيكاس، “إن كل محاولة (جديدة) للوصف تعدل العمل الفني”*، أي تمنحه إضافة دلالية لم تكن فيه من قبل أو لم يوفرها من قبل للقراء والمشاهدين السابقين. ومن ثم فكل دخول جديد إلى العمل الفني، كل اختراق مختلف له لابد أن يضفي عليه المزيد من التعديلات الدلالية. وبالتالي، ندرك اليوم لماذا وكيف اصطدم الفنان عبد الله الحريري- حين عاد من إيطاليا في منتصف سنوات 70 وعرض متتالية أعماله السوداء – بمحيط نظري ونقدي وإعلامي فقير جماليا، فوجد نفسه أعزل في خياره الطليعي والفني والثقافي.
كان الجمهور آنذاك “ثوريا” على المستوى السياسي والإديولوجي، “محافظا” على المستوى الثقافي والفني، وكان الحريري يدشن دخوله الحقيقي في الحياة التشكيلية المغربية مسلحا بتكوين جمالي وتقني وتربية بصرية رصينة، مدفوعا بغريزة الحرية والإبداع والمغامرة.
ولأن الإبداع في الثقافة الفنية بلا شطآن، هاهو الفنان التشكيلي عبد الرحمان وردان اختار ان يكون واحدا من مؤطري أحد ورشات “تراث بلادي” بقاعة العرض للمكتبة الوسائطية لمسجد الحسن الثاني، إذ يعود بألوانه المنيرة والمتوهجة التي تعكس طبيعة كينونته، وتفجر كتلة من المشاعر تذكر بذلك الصراع بين نور الحياة وظلمة الموت، في جديد أعماله في يوظف وردان قشور الجوز والزعفران ما يعطي للوحاته هذا اللون الدافق والدافئ الشديد الحمرة الذي يحيل على سحر الجنوب المغربي.

العادات الأمازيغية ورموزها ودلالاتها تكشف بشكل جواني عن الذاكرة الجماعية، التي تنهض على ميثاق إبداعي، فهي مكون أساسي للهوية الثقافية للفنان. مثل لغة بصرية أصيلة تبدو اللغة الأمازيغية من خلال حروفها “تيفيناغ” مطواعة وفي متناول ريشته عبر مرجعية فريدة. من هنا ينفرد وردان بمفردات تشكيلية استثنائية توحي أننا أمام فنان يستثمر منظومة رمزية تقليدية يكشف عنها في إطار جمالي عصري متحرك.
يحرص الفنان المغربي عزيز سيد على أن يشكّل موعده الفني الجديد مع المتلقي، إضافة نوعية تغني المشهد التشكيلي المغربي على مستوى التعبير الجمالي عن تجليات الجسد الإنساني.
هذا الفنان المولود في عين بني مطهر (شرق البلاد) عام 1946، والمعروف ببصمته وابتعاده عن الأضواء، على الرغم من اشتغاله لسنوات عديدة في قسم الديكور بالتلفزيون المغربي، قبل تقاعده، يجرّ وراءه رصيداً من التجارب التي خاضها بكثير من الحماس، منذ عودته إلى المغرب من بولونيا، التي أمضى في أكاديميتها للفنون الجميلة 7 سنوات، مغترفاً الفن من ينابيعه، ومنفتحاً على كل التيارات التشكيلية التي تسود العالم آنذاك.


وبفضل هذه الدراسة الأكاديمية في بولونيا، أمكن له أن يفرض نفسه وفنه، انطلاقاً من إطلالته على هذا الفضاء المسيج بالألوان والمضمخ برائحة الصباغة، من خلال أول معرض فردي له أثار انتباه النقاد والزوار على السواء سنة 1973، وكان بمثابة ميلاده الحقيقي كصاحب ريشة واعدة، سرعان ما انتصبت واقفة إلى جانب القامات السامقة التي كان لها شرف الريادة.
تتوالى سلسلة المعارض، على امتداد السنوات، ومعها يُكرّس عزيز سيد واحداً من الفنانين التشكيليين المغاربة، الذين تفادوا السقوط في دائرة التغريب، ولم ينساقوا وراء الأنساق الفنية والأساليب الغربية، حيث ظل محتفظاً بأصالة محيطه الحضاري، مع التجديد في طريقة اشتغاله على اللوحة، بكثير من الاحترافية التي اكتسبها من دراسته الفنية.
وعن مقتربه الجمالي قال نجمي إن أسلوب عزيز سيد “يحتفي بالجسد الشرقي في احتشامه، وفي تلاؤمه مع المحظورات والمساحات الرقابية في جلسته ومتكئه وفضائه وأثاثه، خصوصاً في وشمه وقسمات وجهه التي تحيل على مرجعيته الثقافية العربية والإسلامية”.
والخلاصة التي يتوصل إليها نجمي، هي أن «عزيز سيد تشكيلي كبير حقاً، وذلك على الرغم من تواضعه في المشهد العمومي، حيث يفضل أن ينأى بنفسه في الظل، ويتوارى بعيداً عن الأنظار، ورغم تكتمه المطلق الذي أشارت إليه طوني ماريني (ناقدة فنية إيطالية)، وهي تكتشف في هذا الفنان المغربي الرائع آلة خلاقة قادرة على أن تمنح للجسد الموضوع المطروق تاريخياً وكونياً، نظرة جديدة لم تمنح له من قبل».
وأخيرا وليس آخرا، تنبع تجربة الفنان التشكيلي الألمعي عبد الرحمان بنانة من وعي بصري يعز عن كل وصف، فهو سيد العلامة، ويؤسس لخطاب تشكيلي يستلهم أفقه الجمالي من تراثنا العميق في كل تجلياته.